غزة- مآزق الحرب المستمرة وتحديات الخروج من الأزمة المعقدة.

المؤلف: محمود عبد الهادي11.21.2025
غزة- مآزق الحرب المستمرة وتحديات الخروج من الأزمة المعقدة.

تجاوزت الحرب الشرسة والإبادة الجماعية التي يشنها الحلف الصهيو-أميركي على الشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة شهرها الرابع، دون تحقيق أي من الغايات التي أعلن عنها، مما أوقع جميع الأطراف المعنية، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في ورطة معقدة للغاية؛ وذلك نظرًا للتداعيات المتلاحقة وردود الأفعال الدولية المستمرة، والتي لا تبدو في الأفق القريب أي فرصة للخروج من هذه الأزمات.

فالحلف الصهيو-أميركي يرفض بشدة وقف الحرب قبل أن يحقق أهدافه المرجوة؛ لأن ذلك يعتبر بمثابة هزيمة مدوية بالنسبة له، بينما ترفض حركة "حماس" وفصائل المقاومة الفلسطينية الاستسلام المهين وتصر على التصدي ببسالة للجيش الصهيوني، وإلحاق خسائر فادحة به مقابل الخسائر الفادحة التي يتكبدها المدنيون والبنية التحتية المتضررة. فهل هناك مخرج ممكن لحل هذه الأزمة الراهنة والخروج من هذه المعضلات التي تعيق التقدم؟

لقد بات نتنياهو وحكومته ومجلس حربه عاجزين تمامًا عن تحقيق النصر في هذه الحرب والقضاء على حركة حماس والمقاومة الشرسة، وأصبحوا غير قادرين على تحرير الأسرى المحتجزين، وغير قادرين على إجبار سكان قطاع غزة على النزوح والهجرة، وفي الوقت ذاته، فإنهم غير قادرين على اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار، وأصبحوا في أمس الحاجة إلى من ينقذهم من هذا المأزق العويص ويحفظ ماء الوجه

في انتظار المخرج

على الرغم من أن قادة التحالف الصهيو-أميركي توقعوا أن تستغرق حربهم الظالمة على قطاع غزة عامًا كاملاً أو أكثر من أجل القضاء على حركة حماس والمقاومة الفلسطينية واستعادة الأسرى المحتجزين، فإن التداعيات العسكرية والإنسانية والسياسية والشعبية للحرب، والتي فاقت كل التوقعات، قد أدخلت جميع الأطراف المعنية، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في مآزق وتحديات معقدة، وفي مقدمة هذه الأطراف:

أولاً: مأزق الكيان الصهيوني

لقد مني مجلس الحرب الصهيوني بفشل مشين في تحقيق أهدافه المعلنة من هذه الحرب، على الرغم من أنه لم يدخر وسعًا على الصعيدين العسكري والأمني في سبيل تحقيق ذلك، على مدى الأيام المئة الماضية من عمر الحرب. ويعود الفضل الأكبر في هذا الفشل الذريع إلى الاستعداد العملياتي المذهل للمقاومة الفلسطينية والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني الأبيّ في وجه أدوات حرب الإبادة الجماعية التي يشنها التحالف الصهيو-أميركي على قطاع غزة المحاصر.

وقد أدى هذا الفشل إلى إدخال رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو ومجلس حربه في مأزق متعدد الجوانب، عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وشعبيًا، مما أدى إلى زعزعة الثقة المتزايدة في قيادة الجيش الصهيوني وسمعته الدولية المزعومة، وكذلك في سمعة معداته المتطورة وقدراته التكنولوجية والاستخباراتية، كما أدى إلى تفكك مجلس الحرب والتحالف الحاكم وتضاؤل التأييد لليمين المتطرف لدى الناخبين، وتصاعد الحملات السياسية والشعبية ضد رئيس الحكومة المتهم، وإلى الإضرار بصورته الإقليمية والدولية المتدهورة، وزيادة المطالب الشعبية العارمة بوقف الحرب فورًا والإفراج العاجل عن الأسرى والمختطفين الأبرياء، فضلًا عن الخسائر الاقتصادية الهائلة التي تكبدها الكيان، والتشويه الذي لحق بصورته المهزوزة على المستوى الدولي.

لقد أصبح نتنياهو وحكومته المتطرفة ومجلس حربه العاجز، غير قادرين على تحقيق النصر المزعوم في هذه الحرب والقضاء على حركة حماس والمقاومة الباسلة، وغير قادرين على تحرير الأسرى المحتجزين في غزة، وغير قادرين على إجبار سكان قطاع غزة الصامد على النزوح والهجرة القسرية، وفي الوقت ذاته، فإنهم غير قادرين على اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار بشكل كامل، وأصبحوا في أمس الحاجة الماسة إلى من يحفظ ما تبقى لهم من سمعة وماء الوجه وينتشلهم من هذا المأزق الخطير.

ثانياً: الإدارة الأميركية

إن السياسة التي تبنتها الإدارة الأميركية بالمشاركة الكاملة مع الكيان الصهيوني في حرب الإبادة الجماعية الظالمة في قطاع غزة والإصرار الشديد على مواصلة هذه الحرب العدوانية حتى تحقيق أهدافها المزعومة؛ قد ألحقت بها خسائر فادحة على المستويات السياسية والقانونية والإنسانية والأخلاقية والشعبية، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، وهي خسائر أدخلتها في مأزق شديد التعقيد ومتعدد الزوايا كذلك، مع حلفائها التقليديين ومع شعبها الواعي ومع خصومها المتربصين، مما أدى إلى تدهور شعبية الرئيس بايدن وحزبه الديمقراطي، وتقليل فرصهم في الفوز في الانتخابات الرئاسية المرتقبة نهاية العام الجاري.

وقد تحطمت قواعد النظام العالمي القانونية والأخلاقية والحضارية التي طالما تغنى بها الرئيس بايدن في خطاباته الرنانة، وانكشفت عيوب سياسة الكيل بمكيالين على أشد ما يكون بفعل المقارنة الصارخة بين موقف الإدارة الأميركية المتخاذل من الحرب الروسية على أوكرانيا، وموقفها الداعم والمتواطئ في الحرب الشرسة على غزة. وقد أدى هذا المأزق الخطير بالإدارة الأميركية إلى رفض الدعوات المتزايدة لوقف إطلاق النار الفوري، على الرغم من حاجتها الماسة إلى ذلك باعتباره المطلب الأول والملح على المستويين الرسمي والشعبي داخليًا وخارجيًا، ولكنها لا تستطيع القيام بذلك؛ بسبب الفشل الذريع للحرب في تحقيق أهدافها حتى الآن.

ثالثاً: حركة حماس والمقاومة الفلسطينية

لقد حققت حركة حماس والمقاومة الفلسطينية الباسلة في مواجهة التحالف الصهيو-أميركي الغاشم؛ إنجازات مبهرة وبطولات استثنائية في ساحة القتال، على الرغم من الظروف القاهرة والصعبة التي تتحرك فيها المقاومة، وعلى الرغم من شراسة الآلة الحربية الصهيو-أميركية المدججة بالتجهيزات المتطورة وتفوقها الواضح، وسيطرتها الكاملة على الأجواء والبر والبحر؛ وعلى الرغم من الحصار الخانق المضروب على المقاومة وشح الإمكانيات لديها وبدائية تجهيزاتها العسكرية وانقطاع كافة أشكال الدعم والإسناد عنها؛ فإنها قد كبدت جيش الكيان الصهيوني خسائر فادحة لم تكن في حساباته على الإطلاق، وجعلته عاجزًا تمامًا عن تحقيق أي من أهدافه المعلنة.

ومع ذلك؛ فإن هذه الحرب المستمرة حتى اليوم تضع حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية في وضع شديد الصعوبة يتمثل بشكل خاص، في الثمن الباهظ الذي يدفعه المدنيون الأبرياء الذين يموتون بالآلاف، والدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية لقطاع غزة المحاصر، في حين لم ترضخ إسرائيل العنيدة بعد للمطالب العادلة التي تصر عليها الحركة من إجراء مفاوضات جادة لإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين الأبرياء قبل الإعلان عن وقف شامل لإطلاق النار.

إن الأمم المتحدة ومؤسساتها تعيش في مأزق كبير أفقدها مصداقيتها ومرجعيتها وقدرتها على إقامة العدل والمساواة بين الدول والشعوب، وإحلال السلام والاستقرار الدوليين، وَفقًا للقوانين الدولية والإنسانية المتعارف عليها

رابعاً: الدول العربية

تعيش الدول العربية مأزقًا حقيقيًا هي الأخرى، فعلى الرغم من الاجتماعات المتكررة والمؤتمرات العديدة والجولات المكوكية والنداءات والمناشدات المستمرة؛ فإنها لم تستطع تحقيق أي تقدم ملموس في وقف إطلاق النار وإنهاء العدوان، ولا تأمين دخول منتظم ومنضبط للمساعدات الإنسانية الضرورية وتوزيعها بشكل عادل، فضلًا عن المساهمة عسكريًا ولوجستيًا في نصرة المقاومة الفلسطينية الباسلة، الأمر الذي أوقعها في مأزق تاريخي شديد الحرج أمام شعوبها وأمام دول العالم التي تستغرب أن يكون موقفها بهذا المستوى المؤسف من العجز والضعف. أما الدول العربية المؤيدة للحرب على حركة حماس والمقاومة الشرسة، وعلى رأسها السلطة الفلسطينية الهزيلة، فلا هي التي نجحت في إيقاف الحرب المدمرة، ولا هي التي ضمنت هزيمة حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، بل باتت تخشى بشدة من أن تنتهي هذه الحرب الظالمة وتعود حركة حماس والمقاومة الفلسطينية أقوى وأكثر شعبية مما كانت عليه في السابق.

خامساً: محور المقاومة العربية

لقد حافظ حزب الله اللبناني على قواعد الاشتباك الحالية مع جيش الكيان الصهيوني المتغطرس، ضربة بضربة، وهدفًا بهدف، مما أحدث بعض الارتباك الملحوظ لجيش الكيان الصهيوني خلال حربه العدوانية ضد حركة حماس والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة المحاصر، واضطره إلى إعادة توزيع قواته وانتشاره ومقدراته العسكرية على جبهتين بدلًا من جبهة واحدة فقط.

ومع طول أمد الحرب الدائرة، لا يملك حزب الله خيارات بديلة لتصعيد عملياته العسكرية لتخفيف الضغط المتزايد على غزة الصامدة؛ وذلك مراعاة منه لحساسية الوضع السياسي اللبناني الداخلي المعقد، وتحسبًا لتدخل الولايات المتحدة عسكريًا بصورة مباشرة في الرد على تصعيد محتمل، أو قيام الجيش الصهيوني بتكرار سيناريو حرب عام 2006م المدمرة في العاصمة اللبنانية بيروت.

وعلى المنوال نفسه ولكن بدرجة أقل وبتأثير محدود؛ شاركت القوات اليمنية (الحوثية) والمقاومة الإسلامية في العراق ببعض العمليات العسكرية ذات الأثر المعنوي مع المقاومة الفلسطينية الباسلة في قطاع غزة المحاصر، ولكن ليس لها تأثير مباشر على العمليات العسكرية اليومية الدائرة هناك، ولا على موقف التحالف الصهيو-أميركي المتعنت والرافض لأي حلول عادلة.

سادساً: المجتمع الدولي

لقد فشل المجتمع الدولي بكل مؤسساته وهيئاته الأممية في إيقاف الحرب الدائرة وإيصال المساعدات الإنسانية العاجلة والضرورية لسكان قطاع غزة المحاصر، وانكشفت بشكل جلي حقيقة الهيمنة الأميركية المطلقة على هذا النظام الدولي، وتعالي الكيان الصهيوني الغاشم على جميع القوانين والشرائع والاتفاقيات الدولية المتعارف عليها، لتجد الأمم المتحدة ومؤسساتها نفسها في مأزق كبير جرّدها تمامًا من مصداقيتها المفقودة ومرجعيتها المهزوزة وقدرتها المتضائلة على إقامة العدل والمساواة بين جميع الدول والشعوب، وإحلال السلام والاستقرار الدوليين المنشودين، وفقًا للقوانين الدولية والإنسانية العادلة.

سابعاً: مأزق الدول الغربية

لقد وقعت الدول الغربية في مأزق كبير بات يهدد المبادئ والقيم والأسس الفكرية التي تقوم عليها أنظمتها السياسية العريقة، ومع استمرار حرب الإبادة الشاملة، وتفاقم آثارها الإنسانية المأساوية على المدنيين الأبرياء، بدأ التباين يظهر تدريجيًا في مواقف الدول الغربية من هذه الحرب المدمرة، وانتقل البعض منها مؤخرًا إلى الدعوة المباشرة لوقف إطلاق النار الفوري والشامل.

لا يوجد مخرج حقيقي لأي من الأطراف المعنية إلا من خلال الوقف الفوري للحرب الظالمة، والانتقال السريع إلى المرحلة التالية التي لن تغيب عنها حركة حماس والمقاومة الإسلامية الباسلة، بعد أن أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك قدرتها الفائقة على المقاومة والصمود والثبات والتمسك الراسخ بحقوق شعبها الفلسطيني الأبي الذي التفّ حولها في لوحة صمود أسطورية نادرة ومشرفة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة